17 - 07 - 2024

يتضمنها كتاب محمد إبراهيم عبد العال | رؤية تحليلية لتلقي النقد الثقافي عربيا تجدد الجدل حول مقاربة عبد الله الغذامي

يتضمنها كتاب محمد إبراهيم عبد العال | رؤية تحليلية لتلقي النقد الثقافي عربيا تجدد الجدل حول مقاربة عبد الله الغذامي

صدر عن دار بيت الحكمة في القاهرة كتاب مثير للجدل من تأليف الدكتور محمد إبراهيم عبد العال عنوانه "النقد الثقافي.. نحو منهجية التحليل الثقافي للأدب".  المؤلف يقدم مقاربة مفادها أن الثقافة هي تعبير عن الشعب، ليذهب إلى أن الناس منتجون لكافة الأشكال الثقافية التي تكتسي حياتهم. 

ينطلق المؤلف من الدراسات المنجزة في مدارس النقد الثقافي التي أرست قواعدها وفق منهجيات جرى الاعتداد بها. ومن ذلك نقد مدرسة فرانكفورت للظواهر الفنية والأدبية، فقد أولى رواد هذه المدرسة اهتماما خاصا بالفن، بوصفه الممارسة الوحيدة المتاحة للإنسان للتحرر من السيطرة والهيمنة التي أصبحت سمة المجتمعات الرأسمالية الغربية والتي أحكمت قبضتها على الإنسان، ومن ثم تتلخص نظرتهم للفن بوصفه أداة تحرر وانعتاق. 

وكان من الطبيعي أن ينظروا للممارسة النقدية للأعمال الفنية في إطار مرجعية الواقع الاجتماعي والسياسي للظاهرة الفنية، فالفن لا يستطيع القيام بدوره التحرري إلا إذا استطاع تجاوز ما هو قائم من وضع اجتماعي وسياسي وثقافي، ومن ثم يتمكن من تحقيق استقلاله الذاتي، على مستوى الرؤية والأداة.

 ويرى المؤلف أن باحثي مدرسة فرانكفورت نظروا إلي الفن في المجتمعات الرأسمالية بوصفه ممارسة فاقدة لوظيفتها الحقيقية، وأقرب ما تكون إلي الزيف، ذلك أن طبيعة هذه المجتمعات جعلت من الفن سلعة خاضعة لشروط العرض والطلب التجاريين، كما نظروا إلى القالب الفني الذي تضعه أيديولوجيا المجتمعات الشيوعية بوصفه أداة لقولبة الذات وكبح جماح حريتها الإبداعية والرؤيوية، بما يجعل الفن الملتزم كذلك ممارسة لتزييف الوعي، تستجيب لشروط العرض والطلب الأيديولوجي، شأنه في ذلك شأن الفن في المجتمعات الرأسمالية.

الدراسات الثقافية

يرى المؤلف أن مدرسة فرانكفورت واكبت منذ حلولها في أمريكا ظهور ثقافة وسائل الإعلام الجماهيرية التي تشمل السينما والموسيقى والإذاعة والتلفزيون، وقد سيطرت عليها كبريات الشركات التجارية والصناعية. وفي هذا الإطار طوّرت مدرسة فرانكفورت في المهجر طرحا حول (الصناعات الثقافية) وينظر بعض الباحثين إلى هذه الرؤية بوصفها أول احتكاك مع موضوع الدراسات الثقافية. صاغت مدرسة فرانكفورت مصطلح (الصناعات الثقافية) بوصفه دالا على شكل الظواهر الثقافية ووظيفتها، ومنها الظاهرة الفنية والأدبية، وكذلك على عملية إنتاج الثقافة الجماهيرية في المجتمعات الرأسمالية. وهذه النظرية تعد من النماذج الأولى للدراسات التي تحلل عمليات الإنتاج الثقافي، والاقتصاد السياسي، وسياسات النصوص الثقافية، والتلقي الجماهيري، لذلك فإن هذا التصور الخاص بالصناعة الثقافية هو أيضا تصور اقتصادي جوهره أيديولوجي.

يأخذنا المؤلف عبر صفحات الكتاب إلى الدراسات الثقافية في بريطانيا فقد تم تأسيس مركز برمنجهام للدراسات الثقافية عام 1964، وقام بدور كبير في تطوير هذه النوعية من الدراسات في مختلف الحقول المعرفية، وانطلق من دراسات الناقد الأدبي وعالم الاجتماع البريطاني رايموند ويليامز. ففي كتابه (الكلمات المفاتيح) وسع مفهوم الثقافة ليشمل خطابات المعرفة الإنسانية كافة. ويستهدف ويليامز من توسيع دائرة الخطابات التي يمحصها إلى إكساب تصوره التقدمي الماركسي للثقافة بعدا تاريخيا مع تجذير أصوله في تطور المجتمع وثقافته معا. 

بينما يقوم كتابه (الثقافة والمجتمع) على فكرة دراسة التغييرات البنائية والتداولية والدلالية التي انتابت خمسة مصطلحات مفتاحية، هي: الصناعة، والديموقراطية، والطبقة، والفن، والثقافة. وتتبع ويليامز التغيرات التي طرأت على هذه المصطلحات حتي يصل إلي مصطلح الثقافة، الذي أولاه اهتماما خاصا، علي أساس أن فكرة الثقافة عنده تدور في إطار علاقتها بالمجتمع، حيث يمثل المجتمع سياقا تاريخيا للتغيرات المؤثرة في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية.

رؤية المؤلف

 وعموما فقد جاء هذا الكتاب ليقدم لنا رؤية المؤلف للنقد الثقافي والنص الأدبي فخلص إلي ما يلي: يشير تاريخ مصطلح «النقد الثقافي» - كما تناوله المؤلف في الفصل الأول من هذه الدراسة - إلى أن النقد الثقافي يتأسس على تاريخ طويل من الأفكار الفلسفية والنقدية، لا تبدأ في ستينيات القرن العشرين، كما أشار أحد مؤرخي النقد الثقافي، وإنما تمتد إلى أبعد من ذلك. فتاريخ المصطلح يتأسس على مقولات النظرية النقدية الألمانية التي عُرفت باسم «مدرسة فرانكفورت»، ومقولات هذه المدرسة نفسها تستند على تاريخ طويل من الأفكار الفلسفية، بدءًا من هيجل وكانط، وليس انتهاءً بكارل ماركس؛ وفي مرحلة ثانية من تاريخ مصطلح النقد الثقافي، نجد أن الدراسات الثقافية الإنجليزية قد تلقفت مقولات «مدرسة فرانكفورت» وعملت على تطويرها واختبارها على المستوى التطبيقي، فيما عُرف بـ«مركز برمنجهام للدراسات الثقافية». ويشير تاريخ المصطلح إلى أن المداخلة الماركسية على دراسة الظواهر الثقافية مثّلت ركيزة منهجية أساسية لتقويم عوار الدراسات الإنسانية.

ثانيًا: نتائج تخص تطور المصطلح: يشير مسار دراسات النقد الثقافي إلى تطوره في إطار تحليلي بفضل التحول عن النموذج البنيوي المغلق، وقد أسهمت مدرسة ما بعد البنيوية الفرنسية في هذا الأمر، وبخاصة مع جهود رولان بارت، التي وسعت مجال التحليل اللساني، فضلا عن اقتراحه مفهوم الدلالة كمصطلح يكسر انغلاق النموذج البنيوي؛ وهو ما فتح الباب أمام المداخلة السيميائية لتكون ركيزة في منهجية التحليل الثقافي. 

الممارسة النقدية

كما يُعد المنجزان النظري والتطبيقي للمفكر الفرنسي ميشيل فوكو مدخلًا بالغ الأهمية لتبلور النقد الثقافي كمنهجية قرائية للظواهر الثقافية، وبخاصة في مقاربته مفهوم التاريخ الذي أدى إلى انفتاح الدراسات الإنسانية على المجتمع والثقافة. وهذا الأثر يبدو واضحًا في مسار دراسات النقد الثقافي في مدرسة النقد اليساري الأمريكي، وتحديدًا في اقتراح ستيفن جرينبلات مفهوم التاريخانية الجديدة، وشعرية الثقافة، حيث أفادت أطروحات فوكو في بناء هذا النموذج النقدي، وكذلك أفادت في الطرح الذي قدمه إدوارد سعيد حول مفهوم النقد العلماني.

ويشير هذا المسار التطوري في رأي المؤلف لمصطلح النقد الثقافي إلى أن الممارسة النقدية الثقافية لم تكن منهجًا نقديًّا منضبطًا، وإنما هي مسيرة من الأفكار المتشابكة والمتطورة، حاول خلالها النقاد الثقافيون تقديم مقاربة نقدية للظواهر الثقافية، أوسع من النموذج البنيوي، دون أن تتورط في قراءة تاريخية أيديولوجية للظواهر كما كانت تطرحها النظرية الماركسية. ولذلك فقد اقترحوا مفهومًا جديدًا للدراسة التاريخية، فيما عُرف بـ«التاريخانية الجديدة»، بحيث يحقق هذا المفهوم قراءة ثقافية للظواهر، تستند على العلاقة بين الظواهر الثقافية ومجتمعها وثقافتها، دون التورط في قيود النظرية الماركسية.

التلقي العربي

ثالثًا: نتائج تخص التلقي العربي للنقد الثقافي ، يشير التلقي العربي للنقد الثقافي إلى أن جل النقاد العرب لم يلتفتوا في مقارباتهم الثقافية للنص الأدبي إلى الخصوصية الجمالية، التي تميزه عن سواه من الظواهر الثقافية الأخرى. 

وقد تناول المؤلف في الفصل الثالث من هذه الدراسة كتاب «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية» للناقد السعودي عبد الله الغذامي، كنموذج للتلقي العربي للنقد الثقافي. وقد خَلُص إلى أن الكاتب قد ارتكز على النموذج الذي طرحته الدراسات الثقافية الغربية في قراءة الأنساق الثقافية المضمرة في الظواهر/ النصوص، دون الاهتمام بالخصوصية الجمالية للنص الأدبي، بل إن غايته القرائية التي انحصرت في قراءة الأنساق الثقافية العربية قد أهدرت القيمة الجمالية للنصوص المدروسة، بما يجعلها أشبه بالوثيقة على المجتمع العربي. وقد حمّلت القراءةُ الثقافية للدكتور الغذامي هذه النصوص أكثر مما تحتمل، حيث اعتبرها شاهدًا على رجعية الثقافة العربية، وسببًا في تكريس أنساق التخلف في المجتمعات العربية، ومن ثم فقد كانت هذه الغاية دافعًا لمحاكمة الثقافة العربية انطلاقًا من محاكمة هذه النصوص.

رابعًا: نتائج تخص إجراءات التحليل الثقافي للأدب ، تنبني مشروعية هذه الدراسة على اقتراح منهجية خاصة للنقد الثقافي للأدب، تعي خصوصية النص الأدبي وتحاول أن تقدم منهجية قرائية له، تزاوج في غاياتها التحليلية بين الأدبي والثقافي. وقد آثر الدكتور محمد إبراهيم عبد العال أن يطرح هذه المنهجية النقدية من خلال تأسيس معرفي لإجراءات التحليل الثقافي؛ ولذلك تناول في الفصل الرابع من هذا الكتاب مفهوم اللغة وعلاقته بالفكر والثقافة، كما تناول البعد الثقافي في مفهوم العلامة اللغوية، في محاولة للتأسيس معرفيًّا لإجراءات التحليل الثقافي للظاهرة الأدبية، حيث لا انفصال في القراءة الثقافية عن التحليل اللغوي واستقراء الفكري.

حضور العالم

ومن ثم ختم المؤلف هذه الدراسة بفصل حاول أن يقدم فيه رؤية منهجية منضبطة للتحليل الثقافي للنص الأدبي، واستند في هذه الرؤية على مفهوم العالم وعلاقته بالنص الأدبي، ثم أتبع ذلك بمجموعة مقترحة من مستويات التحليل الثقافي للنص الأدبي، واختبر المؤلف فاعلية هذه المستويات على نموذج أدبي شعري، وتتمحور النتائج الخاصة بمنهجية التحليل الثقافي للنص الأدبي في عدد من النقاط؛ هي:

 1- النص الأدبي نص مسكون بالعالم، ومن ثم فإن أي قراءة تعزل النص عن سياقاته الخارجية الفاعلة فيه سوف يؤدي بالضرورة إلى إهدار للقيم الاجتماعية الكامنة في النص الأدبي، ومن ثم إهدار قيمة الأنساق الثقافية الكامنة فيه. 

2 - نظرًا لعمومية مفهوم العالم، فإن القراءة الثقافية للنص الأدبي يمكن أن تنظّم حضور العالم في قراءة النص الأدبي من خلال تنظيم خطابات العالم الفاعلة في هذا النص.

 3- تقوم منهجية المؤلف المقترحة للتحليل الثقافي للأدب على أساس الخصوصية الفنية والجمالية التي تميز النصوص الأدبية، ومن ثم يظل التحليل الثقافي للنص الأدبي تحت مظلة النقد الأدبي، وتحاول استقراء الأنساق الثقافية الواعية في النص، التي تشكل في مجموعهاعناصر بنائية للنص الأدبي، تعمل في إطار البنية الجمالية للنص.

 4 -تقترح منهجية الدكتور محمد إبراهيم للتحليل الثقافي عددًا من المستويات الإجرائية لتناول الثقافي الكامن في النص الأدبي، وذلك لضبط عملية تحليله ثقافيا، وتتدرج هذه المستويات، من العناصر البنائية الأصغر (العلامة الثقافية)، مرورًا بالعناصر الأكبر (الجملة والوحدة الثقافية)، وصولًا للمستوى الأخير (النص الثقافي).

منهجية إجرائية

تمثل هذه الإجراءات التي يقترحها المؤلف لتحليل النص الأدبي ثقافيًّا منطلقًا للبحث عن منهجية قرائية للتحليل الثقافي للأدب، أكثر مما تمثل منجزًا، حيث تثير هذه المنهجية الإجرائية مجموعة من التساؤلات، يمكن أن نفصّلها فيما يلي: 

أولا / يمثل كل نصٍ أدبي إشكالية جديدة للتحليل الثقافي، حيث تتوقف قراءة الأنساق الثقافية الفاعلة في أدبية النص على قابلية النص للتحليل ثقافيًّا، فليس كل نص قابلًا للتحليل الثقافي وفقًا لهذه المنهجية، كما يتوقف الأمر على قصدية المؤلف في توظيف الأنساق الثقافية داخل نصه للإفادة منها جماليًّا، ويتوقف الأمر كذلك على قدرة الناقد الأدبي الثقافي في استقراء الأنساق الثقافية الفاعلة في النص.

ثانيا: تمثل الدراسات الأكاديمية التقليدية إشكالية أخرى أمام تحليل النصوص ثقافيًّا، فقد جرى العرف على تحليل النصوص التي تندرج تحت المفهوم المؤسسي للأدب، ومن ثم يقتصر منتوج قراءتها على نمط بعينه من الأنساق الثقافية، في حين تمثل النصوص الأدبية التي لا تندرج تحت المفهوم المؤسسي للأدب أفقًا طموحًا للتحليل الثقافي، حيث تستبطن هذه النصوص مجموعة من الأنساق الثقافية شديدة العمق والتعقيد في آن؛ الأمر الذي يجعل من تحليل مثل هذه النصوص ثقافيًّا مجالًا جديدًا لتطوير الدراسات النقدية الأكاديمية.

ويبقى أمر مهم يجب الالتفات إليه في رأي المؤلف وهو كون هذه الإجراءات ترتهن ولا بد إلى نظرية الأنواع، ومن ثم ستختلف، وينبغي لها أن تختلف في نوع أدبي عنها في نوع آخر، دون أن يكون هذا الاختلاف خلافًا، فهو اختلاف أقرب للتنوع تحت مظلة الوحدة من كونه خلافًا. بمعنى أن الإجراءات المقترحة للتحليل الثقافي في هذه الدراسة إجراءات عامة، يمكن للنوع الأدبي توجيه تطبيقها وفق خصوصيته.
---------------------------
بقلم: د. خالد عزب

....